خديعة البشرية

 عبد الرحيم حدا:

        قراءة في نص"خديعة في القرية" لعبد الواحد حدا من كتابه - أيها الضوء تمهل - الفائز بجائزة سيزار الوطنية:

الضِّباع تحوم حول قريتنا

والذئاب النبيلة تركض خلف أطفالنا خيفةَ أكلهم

            واجهنا، فأطلقنا النار على الذئاب.    

                           ولما نفدت ذخيرتنا..

كانت وجوه الضّباع أمام وجوهنا تماما!.

بينما خنازيرُ البَرِّ

               قد عبثتْ بمحاصيلنا

ونساؤنا الطيبات هنااااك

على جداول ماء الثلج البعيدة..

يغسلن أيامَنا

ورائحة الخديعة تملأ الآفاق..

من وَبَرِ وحوش ضارية بوجه آدمي!.                                                                                     

***

    الضباع حيوانات ترمز للافتراس والاعتداء، بحكم طبيعتها الحيوانية، لكن باعتبار الإنسان حيوان رامز -حسب كلود ليفي ستراوس- فإنه يضفي المعاني على الأشياء المحيطة به، وخصوصا في الأعمال الأدبية العظمى مثل كليلة ودمنة وغيرها من الأعمال التي استوحت سلوك الحيوانات للتعبير عن البشر.

      بهذا المعنى فإن الشاعر أضفى عليها شيئا جديدا، ليعلن فداحة خطأ الإنسان في إدراك الرموز، حين وجه سهامه للذئاب؛ خطيئته البدائية في معرفة كنه الأشياء، وعماه الواهم في كسر جرار المعاني، بل إمعان دائم وزيغ عن فهم حقيقة الوجود.

    لكن هنا الشاعر يعود لمأساة الإنسان التى تولد منذ وجوده، مأساة التأخر الدائم في استيعاب الدرس، بالمعنى الوجودي وليس السببي، إذ به يصطدم بحقيقة خطئه، وحقيقة الواقع الداهم، وكأن النظرية أو المعرفة تتمظهر في نفس الوقت الذي لم تعد لها معنى في الواقع، وهذه هي المأساة المعاصرة.

المفارقة-المعضلة أن الإنسان نتيجة قراءته الخاطئة أصاب الصديق عوض العدو، يالها من مأساة!

    الخنازير بكل دلالاتها الرمزية والأدبية، تصول وتجول وتعيث في البلاد فسادا، وهذا المشهد السينمائي يحصل في وسط مأساة عدم الإدراك واختلاط المفاهيم، لدرجة أن المأساة الإنسانية تصل إلى قتل الصديق وإدراك الموت المحذق من العدو في لحظة لا فائدة من الإدراك، بل إن عدم الإدراك لأرحم.

يالها من مأساة بشرية، تصل إلى المعاني متأخرة، كعادتها دائما!

    حين يصيغ الشاعر السطر مبتدئا بقد عبثت بمحاصيلنا: فإنه يؤكد أن الخطر قد وقع بشكل محقق لا رجعة فيه، بل الخديعة هي أكثر مأساوية لأنها مزدوجة أو مبطنة، من خلال مداهمة الضباع في اللحظة الأخيرة، والتحدث عن الخنازير التي فعلت ما تريد، وكأن الشاعر يوغل في الوهم الإدراكي لدى البشرية.

تصوروا معي مأساوية الأمر، قد تدرك البشرية مفترسها في آخر لحظة/ الضباع، لكن الخنازير ربما هي من سخرت الوهم - ودمرت الخطوط الفاصلة بين الصديق والعدو- وجعلت المفسد يصول ويجول في غفلة من أمرهم.

     ثم يعود الشاعر بشكل سينمائي واصفا الوضع، مستحضرا بشكل دال، وفق مدلول النصوص الفلسفية والأدبية، أن الأنا المفكرة، تتحدث بصيغة النحن. إذ يمكن القول أن المرأة المفكر فيها - وفق الكوجيطو الديكارتي- هي نفسها التي نريد، وهي التي يمكن نعتها بشكل حقيقي وليس سببي، لأن النعت هنا الطيبات يطابق المنعوت في كل شيء. وهذا دليل على أن هذه المرأة ليست معاشة، بل كما يراها الشاعر، وكأنها المرأة القابعة في المُثُل.

لأنها: "هنااااك" وهذا الهناك هو مسافة التفكير الواعي الذي تراكم وانتقل من الانفعالية إلى الإدراك وفق تصور ما، إنها "هناك" في اللّاوعي الفلسفي الأدبي الرمزي للإنسان الواعي، القارئ، الشاعر. وهذا يتأكد من خلال استدماج الطبيعة التي توحي إلى الفطرة الأولى، وإلى الرؤية الرومانسية للمرأة والطبيعة، بل إلى الرؤية الأنتربولوجية للنص الديني الذي طهّر الإنسان بالثلج والبَرَد والماء، وكأن الشاعر يوحي إلى مدى جدلية المرأة والطبيعة والقداسة، هذه المرأة التي نتمنى أن تغسل أيامنا من نجاسة وثقل ومأساة الحياة المعاشة، لكي يؤشر إلى حياة مثلى يفتقدها الإنسان عموما في لاوعيه.

    في هذا المشهد المأساوي الجديد الرفيع، وكأن الشاعر نفسه وهو في معمعان رومنسيته ـ التي استقاها من طبيعة الأشياء ومن حلمه وأمله ولاوعيه ـ يصطدم في عز ذلك بشقاء من نوع رفيع، وهو أن هذه الرمزية التي كرسها الأدباء لوصف بشاعتهم، لم تعد مجدية، بل إن الواقع الواضح البسيط أشد بشاعة، إنه ذاك الإنسان الذي حاول تليين وحشيته باستئناس الوحوش، كان وما يزال أشد وحشية من كل الكائنات، وهذه قمة المأساوية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الجنرال

بورتريهات لنفوس قريبة