السَّكينة
عبد الرحيم حدا
قام بعملية حسابية بسيطة، متوسط عمري الآتي هو عشرون عاما، أربعون عاما مرت، لم أكن كما أريد، لم أصر كاتبا، ولا هائما في عشق امرأة، ماذا عساي أن أكون إذن؟ هذا الحبل المتدلي أمامي، يلخص حبل حياتي الذي لف عنقي، أما القادم من السنين فليس إلا المزيد من الألم، لِمَ لا أخلع ضرس الحياة هذه وأرتاح؟
تذكر فيلم عمر المختار الذي أبكاه، وهو يُشنق بحبل مفتول، تلك النظرة التي خلدها أنطونيو كوين، وهو يحملق في الأفق، كان لأنطونيو- عمر أفقا، أما أنا فقد تركت كل الأفق في بدايتي.
شد الحبل وحاول أن يلفه، كما هو حبل المشنقة الإيطالي تماما.
ليست هذه هي المرأة التي يريد، بل ليس هو نفسه الكاتب الذي كان يحلم به. كل شيء صار وهما، خديعة، مصيدة، هل هذا أنتَ؟ تحمل كيس دقيق وسلة الغذاء كل يوم وتمضي كالبهيمة؟ - عفوا البهيمة لا تقوم بهذا أبدا- الحمير المتمردة سرعان ما ترمي أسطوانات الماء من على ظهرها، وتعدو على جنب، منتشية، عائدة إلى قطعيها الحر.
من أنتَ؟ هنا شد الحبل بقوة غاضبا، من هذه الحقيقة الناصعة. سطعت أمامه بعض الوجوه التي ستحزن لفراقه، أبناؤه، صديقه الوحيد، قارئه الفريد، لكنه طرد هذه الصور من ذهنه، مجرد عوائق تحول دون الفناء. لم يغير أي شيء في هذا العالم، على الأقل يغير هذه الأوهام التي تحول دونه والمشنقة.
احمرت عيناه من فرط جبنه أمام كل شيء، أمام موهبته، عمله، وحتى أمام موته البسيط، هذا الموت الذي يعني للآخرين الأحياء، أما هو ففي لحظة ينتهي كل شيء، رقم جديد في السجلات، توفي يومه في الشهر سنة كذا. أوهام العمر والزمن، مجرد حركات متكررة للأرض بلا هدف.
الآن تحطمت كل مقاصده، وضع رجله اليمنى على الكرسي ووضع رأسه في شريط الحبل، تذكر قصيدته التي تحث على الأمل وسخر منها ومن كاتبها ومن كل مُصَدِّقيها.
"وهم افتريتُه، واقترفتُه، لا أريد أوهاما أخرى."
شَدَّ الشريط بقوة على رقبته، تمنى لوكان عنقه أكثر هشاشة من قصبة تبن. هذا الدم المتدفق إلى الحنين سينقطع إلى الأبد، سينتهى كل شيء حين ينحبس الدم عن الدماغ. لا ذكريات تتمختر، لا حنين يتمدد كخيط دخان، لا أمل يعاود الظهور كل صبح، كل شيء سيصير داكنا كالدم المحبوس في الجمجمة. هذه الأوهام كلها ستنتهي، الحيوان المنوي بلا أمل جاء وباليأس يعود أدراجه.
بدأت عيناه تدمعان وتجحضان، لازالت النخلتان ناصعتان في ذاكرته، أخذ حجرة بجانب بقايا براز مجهول، وأرسلها بقوة لعرش التمر فتهاوى الرطب، على أرض المقبرة، لن يحرس نخل المقابر أي مالك، ربما ملاك الموت أرحم الملّاكين، أخذ تمرة كانت حلاوتها مختلطة بملوحة الأرض، لكنها ذابت بسرعة في فمه، وبدأ يزدرد واحدة تلوى الأخرى، لا حاجة لغسل التمر الذي سقط توا من حضن نخلته، أما تمر الأسواق فجدير به أن يُغسل ألف مرة.
كم هو الإنسان وديع في صمت الموت! والأقرباء يتباكون وينوحون حوله، هو محايد تماما، لو كان ذلك يعني له شيئا لاستيقظ ووبخهم على هذا النشاز في هدأة السكينة.
جارتي العجوز الإسبانية، التي كانت ممددة أمامي في سكينتها، كانت تبتسم، وتقول قبل موتها سأشتاق لرؤية الناس من النافذة، أما أهلها فقد تهافتوا لتوزيع غنيمتها بعد بكائهم المر، والقس شرب في قُدّاسه دم عيسى حتى سكر.
لم تعد هنا، وحتى كلماتها قد مرت، ولن تشتاق لشيء بعد موتها أبدا. أما أنا فلا زلت أتذكر كلامها وضحكتها ورؤيتها لي من النافذة، أشتاق لابتسامتها وهي تحدثني قائلة:
"سأشتاق لرؤية الناس من النافذة".
بعد أن وضع رجله اليمنى، وضع الرجل اليسرى أمامها، قالت له:
“هذه هي رقصة "السّالْسا"، تحركْ بهدوء، وانتش بِرَجَّة الرقصة، حركْ رجليك بقوة ورأسك بهدوء."
كان يرقص معها كما تريد، لكن بعنفوان رقصة "أَحْواشْ" وسكينة "أَحيدوسْ".
ملاحظات:
• أَحْواشْ: فن شعبي فلكلوري مغربي أمازيغي، يتميز بقوة الرقص وحضور صوت الطبل والطّارة بقوة. تعرف به مناطق متعددة جنوب المغرب (سوس، الحوز..)
• أَحيدوسْ: فن شعبي فلكلوري أمازيغي مغربي، له رقصة متناسقة وهادئة صحبة إيقاع الطّارة، مشهور بمناطق الأطلس المتوسط وما جاورها.

تعليقات
إرسال تعليق